البسملة
الموضوع: | تأجير الأرحام |
مصدرها: | قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية |
التاريخ: | 01/06/2008 |
مع التطور العلمي الهائل في شتى المجالات العلمية صرنا نتسامع كل يوم باكتشاف جديد، والطب عمومًا من أخصب المجالات التي ظهر فيها هذا التطور، وفرع الإنجاب الصناعي خصوصًا من الفروع الطبية سريعة التطور؛ فلا تكاد تمر فترة وجيزة إلا وتحمل لنا الوسائل الإعلامية بعض الاكتشافات الطبية والعلمية الجديدة فيه. وكانت شرارة البدء في هذا المجال عندما ولدت أول طفلة بطريق تلقيح صناعية في أواخر السبعينات من القرن الماضي، فكان هذا الحدث هو موضوع الساعة وقتئذ. ومن ذلك الحين وطب الإنجاب الصناعي في ثورة مستمرة وتطور دائم. ومن طفرات هذا الفرع من فروع الطب ما يعرف بـ "الرحم البديل"، وصورته أن تلقح بويضة المرأة بماء زوجها ثم تعاد اللقيحة إلى رحم امرأة أخرى، وعندما تلد البديلة الطفل تسلمه للزوجين. وأسباب اللجوء إليه متعددة: كمن أزيل رحمها بعملية جراحية مع سلامة مبيضها، أو وجود عيوب خلقية شديدة فيه، أو أن الحمل يسبب لها أمراضًا شديدة، كتسمم الحمل، أو للمحافظة على تناسق جسدها، وتخلصها من أعباء ومتاعب الحمل والولادة. وهذه الصورة قد انتشرت مؤخرًا في الغرب بشكل ملحوظ، وصارت المرأة التي تبذل رحمها لتحمل بويضة غيرها تفعل هذا في مقابل مادي فيما عرف بـ "مؤجِّرات البطون"، وقد بدأت هذه الممارسات في محاولات للتسلل إلى عالمنا الإسلامي، وفيما يلي نعرض ما يتعلق بحكم هذه النازلة وما يترتب عليها من آثار بفرض وقوعها. البابالأول في بيان الحكم الشرعي لعملية تأجير الأرحام الفصل الأول في أدلة التحريم الذي تضافرت عليه الأدلة هو حرمة اللجوء إلى طريق الرحم البديل سواء كان بالتبرع أو بالأجرة، وهذا هو ما ذهب جماهير العلماء المعاصرين، وبه صدر قرار مجمع البحوث الإسلامية بمصر رقم (1) بجلسته المنعقدة بتاريخ الخميس 29 مارس 2001م، وقرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة المنعقدة بمقر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 28 ربيع الآخر 1405هـ إلى يوم الإثنين 7 جمادى الأولى 1405هـ الموافق من 19-28 يناير 1985م. الدليل الأول: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلا عَلَى أَزوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المؤمنون 5-7]، ولا فرق في وجوب حفظ الفرج بين الرجال والنساء، وحفظ الفرج مطلق يشمل حفظه عن فرج الآخر وكذلك عن مَنيِّه. الدليل الثاني: أن الأصل في الأبضاع التحريم، ولا يباح منها إلا ما نص عليه الشارع، والرحم تابع لبُضع المرأة، فكما أن البُضع لا يحل إلا بعقد شرعي صحيح، فكذلك الرحم لا يجوز شغله بغير بحمل الزوج، فيبقى على أصل التحريم ([1]). الدليل الثالث: أن الرحم ليس قابلا للبذل والإباحة؛ فإن الشارع حرّم استمتاع غير الزوج ببضع المرأة؛ لأنه يؤدي إلى شغل رحم هذه المرأة التي استمتع ببضعها بنطفة لا يسمح الشرع بوضعها فيها إلا في إطار علاقة زوجية يقرها الشرع، فيكون الرحم أيضًا يكون غير قابل للبذل والإباحة من باب أولى؛ وذلك للمحافظة على صحة الأنساب ونقائها ([2]). وما لا يقبل البذل والإباحة لا تصح هبته، وكذلك إجارته؛ لأن الإجارة: "عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم"، وقد نصَّ الفقهاء أن قولهم في التعريف: "قابلة للبذل والإباحة"؛ للاحتراز عن منفعة البُضع؛ فإنها غير قابلة للبذل والإباحة ([3]). الدليل الرابع: وجود شبهة اختلاط الأنساب؛ لاحتمال أن تفشل عملية التلقيح بعد وضع اللقيحة في الرحم المؤجر، ويحدث الحمل عن طريق مباشرة الزوج لزوجته، فيُظَنّ أن الحمل والوليد للمستأجر، مع أنه في الواقع ليس له. وكذلك ترد هذه الشبهة في حالة استمرار الزوج في مباشرة زوجته وهي حاملة للبويضة الملقحة؛ لأن الجنين يتغذى بماء الزوج، كما يتغذى من الأم الحامل. وقد ورد النهي الصريح عن وطء الحامل التي هي من هذا القبيل، فعن رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءَه زرعَ غيره"، يعني: إتيان الحبالى. وفي رواية: "فلا يسق ماءه ولد غيره" ([4]). قال ابن القيم: "فالصواب أنه إذا وطئها حاملا صار في الحمل جزء منه؛ فإن الوطء يزيد في تخليقه ... قال الإمام أحمد: الوطء يزيد في سمعه وبصره، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى في قوله: (لا يحل لرجل أن يسقي ماءه زرع غيره). ومعلوم أن الماء الذي يسقى به الزرع يزيد فيه، ويتكون الزرع منه" اهـ ([5]). ولا يمكن أن نقول بمنع الزوج من وطء زوجته مدة الحمل؛ لما في هذا من منعه من واجب عليه إذا لم يكن له عذر، كما هو منصوص مذهب المالكية ([6])، والحنابلة ([7]) بل قد يكون واجبًا عليه بالإجماع إذا خاف على نفسه الوقوع في الزنا، والمنعُ من الواجب حرام، وما يؤدي إلى الحرام يكون حرامًا. كما أن اشتراط منع الزوج من وطء زوجته شرط باطل؛ لمخالفته لمقتضى العقد ([8]). الدليل الخامس: أن التلقيح بهذه الطريقة مستلزم لانكشاف عورة المرأة، والنظر إليها، ولمسها، والأصل في ذلك أنه محرم شرعًا، لا يجوز إلا لضرورة أو حاجة شرعيتين، ولو سلمنا بقيام حالة الضرورة أو الحاجة في حق صاحبة البويضة، لم نسلمها في حق صاحبة الرحم البديل؛ لأنها ليست هي الزوجة المحتاجة للأمومة. الدليل السادس: الإجارة لا يجوز التوسع فيها بالقياس؛ لأنها شرعت على خلاف الأصل؛ فإن الأصل في التملك هو تملك الأعيان والمنافع معًا، وليس تملك المنافع دون الأعيان، والإجارة عقد على تملك المنافع فقط، فكانت مشروعيتها على خلاف الأصل. وما شرع على خلاف الأصل لا يجوز التوسع فيه بالقياس عليه، بل يقتصر فيه على مورد النص المجيز فقط. فإذا كانت الإجارة بصفة عامة لا يجوز التوسع فيها بالقياس عليها، فإجارة المرأة للرضاع لا يجوز التوسع فيها بالقياس عليها من باب أولى ([9]). الدليل السابع: يحرم بذل المرأة رحمها بالحمل للغير؛ للضرر الذي سيقع عليها، فإنها لا تخلو من أحد حالتين: إما أن تكون متزوجة، أو تكون غير متزوجة. فإن كانت متزوجة: جاءت شبهة اختلاط الأنساب، وإن كانت غير متزوجة: عرضت نفسها للقذف وقالَة السوء. كما أن القول بإجازة الحمل لحساب الغير فيه إزالة لضرر امرأة محرومة من الحمل بضرر امرأة أخرى هي التي تحمل وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها وولادتها وعنائها، والقاعدة المقَرَّرة: أن الضرر لا يزال بالضرر ([10]). الدليل الثامن: غلبة المفاسد المترتبة على هذه العملية، ومنها: إفساد معنى الأمومة كما فطرها الله وعرفها الناس، وصبغها بالصبغة التجارية، مما يناقض معنى الأمومة التي عظمتها الشرائع وناطت بها أحكامًا وحقوقًا عديدة، ونَوَّه بها الحكماء، وتغنى بها الأدباء، وهذا المعنى وذلك التعظيم لا يكون من مجرد بويضة أفرزها مبيض امرأة ولَقَّحَها حيوان منوي من رجل، إنما تتكون من شيء آخر بعد ذلك هو: الوحم، والغثيان، والوهن مدة الحمل..هو التوتر، والقلق، والطلق عند الولادة..هو الضعف، والهبوط، والتعب بعد الولادة، هذه الصحبة الطويلة هي التي تُوَلِّد الأمومة. كما أن تغطية الأمومة بهذا الحاجز الضبابي يؤدي إلى تنازع الولاء عند الطفل بعد الإنجاب، هل سيكون ولاؤه لصاحبة البويضة، أو للتي حملته وأرضعته من ثدييه؟ مما قد يعرضه لهزة نفسية عنيفة؛ إذ أنه لن يعرف إلى من ينتمي بالضبط أمه الأولى أم أمه الثانية؟، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح ([11]). مطلب في حكم الحمل عن طريق رحم الضَرَّة بعد أن قرر جماهير العلماء -كما تقدم- حرمة استخدام الرحم في الحمل لحساب الغير سواء بعوض أو عن تطوع، استثنى طائفة منهم صورة واحدة، وهي: ما إذا كانت الأم البديلة التي تقوم بالحمل لحساب الغير زوجة أخرى "ضَرَّة" لزوج صاحبة البويضة المخصبة، فإنه والحالة هذه يجوز -عندهم- أن تقوم بالحمل لضَرَّتها على وجه التطوع عند قيام الحاجة، كأن يكون رحم صاحبة البويضة معطَّلا أو منزوعًا، لكن مبيضها سليم. وبالجواز صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في دورته السابعة المنعقدة في الفترة ما بين 11-16 ربيع الآخر 1404هـ ([12]). وبرر ذلك بأن المرأتين زوجتان لرجل واحد، والزوجة الأخرى قد تبرعت بحمل اللقيحة لضرتها، فوحدة الأبوة متحققة، والتماسك العائلي موجود، وشبهة اختلاط الأنساب هنا منتفية ([13]). والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أن هذه الصورة أيضًا تعتبر ممنوعة محرمة؛ وذلك لعدم نهوض ما يوجب استثناءها من الأدلة السابقة الدالة على تحريم بذل المرأة رحمها للغير. الفصل الثاني في مناقشة الرأي المبيح إن القول بحرمة تأجير الأرحام هو ما أطبق عليه جمهور الباحثين المعاصرين، بل وقع في كلام بعضهم دعوى الإجماع على ذلك، أو عدم العلم بخلاف في الحرمة ([14]). والواقع أنه قد نبت رأي شاذ بإجازة تأجير الأرحام قال به بعض المعاصرين، ولكن هذا الرأي لا يعتبر جارحًا لما قرره الجمهور؛ لضعفه الشديد، كما سيظهر في بيان أدلته ومناقشتها فيما يلي: الدليل الأول: استدلوا بقياس الرحم على الثدي بجامع التغذية في كلٍّ، فكما تتم التغذية عن طريق الفم في حالة الإرضاع، تتم في الرحم بمواد مستخلصة من الطعام المهضوم في أحشاء الأم بواسطة الحبل السري، فهي مصدر الغذاء الضروري لاستبقاء الجنين في كل منهما ([15]). وبعضهم يقول: إن الجامع الاستئجار في كلٍ؛ فهذه تؤجر رحمها، وتلك تؤجر ثدييها ([16]). وقد نوقش هذا الدليل بأنّ قياس الرحم على الثدي بجامع منفعة التغذية في كلٍّ لا يصح؛ لأن شرط العلة أن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا ([17])، والمنفعة وإن كانت وصفًا ظاهرًا إلا أنه ليس منضبطًا؛ لأن معنى الانضباط الوارد في تعريف العلة هو: أن تلزم العلة حالة واحدة، فلا تكون مضطربة، أي: لا تتغير بتغير الأشخاص والأزمان. والمنفعة وصف مضطرب؛ لاختلافها باختلاف الأشخاص والأزمان؛ فرُبَّ منفعة لشخص هي مَضَرَّة لشخص آخر، ورُبَّ منفعة في زمن هي مَضَرَّة في زمن آخر، فلا تصلح أن تكون علة في القياس. فإن قيل: إن العلة ليست مطلق المنفعة بل خصوص التغذية. قلنا: لا يصح أيضًا؛ لاضطراب التغذية وعدم انضباطها؛ فتغذية الجنين من الأم الحاضنة قد تكون منفعة ومصلحة إذا كانت الأم سليمة، ولم تتعاط أية أدوية مؤثرة على صحة الجنين، ولم يطرأ عليها مرض، وقد تكون مضرة للجنين إذا وجد شيء من ذلك. كذلك التغذية من ثدي المرضعة قد يكون مصلحة ومنفعة للرضيع، إذا كانت المرضعة سليمة من الأمراض ولم تتعاط أية أدوية مؤثرة على صحة الرضيع، ومضرة إذا وجد فيها شيء من ذلك ([18]). وأما أن يكون الجامع الاستئجار، فلا يصح أيضا، وذلك لأمرين: أولهما: أن العلة وصف ظاهر منضبط، يلزم من وجوده وجود الحكم، ويلزم من عدمه عدم الحكم، والإجارة ليست كذلك؛ إذ قد تنعدم ولا تنعدم إباحة الرضاع؛ لإمكان تبرع المرضعة به ([19]). الثاني: قيام الفارق بين المقيس والمقيس عليه؛ لأن تأجير ثدي المرأة قد أبيح للضرورة، وهي: المحافظة على حياة الرضيع، بخلاف تأجير الأرحام فهو لإنشاء حياة جديدة، ولا ضرورة فيه، وما جاز للضرورة لا يقاس عليه غيره ([20]). |