بسم الله الرحمن الرحيم
تسلية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بما كان يواجه من سب وتكذيب
سلَّى الله نبيه بآيات عديدة لما واجه من صد وتكذيب ، من ذلك قوله تعالى : }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا { ([3]) .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :" }وكفى بربك هادياً ونصيراً { أي : لمن اتبع رسوله ، وآمن بكتابه ، وصدقه ، واتبعه ، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة " ([4]).
وقوله : } مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ{ ([5]) .
تعريف السب
ما هي الإساءة ؟ وما هو السب ؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله معرفاً السب :" الكلام الذي يقصد به الانتقاص و الاستخفاف ، و هو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن و التقبيح و نحوه " ([6]) .
الذين صدر عنهم هذا الفعل قديماً .. وكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحاولات ؟
الإخوة الأكارم .. ليس من الممكن حصر جميع المحاولات في مثل هذه الندوة ، ولكني أجتزئ بعضها ، فممن أساؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قديماً :
أ/ المنافقون .
وهذه بعض النماذج التي تبين ذلك :
من ذلك ما جاء في قول الله تعالى : }يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{ ([7]) .
قال ابن كثير رحمه الله :" عن محمد بن كعب القُرَظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء. فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: } أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون { إلى قوله: } مجرمين { وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ([8]) .
فهذه الآية نصٌّ في أنَّ الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر ، فالسب بطريق الأولى ، و قد دلت الآية أيضاً على أن من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر ، جاداً أو هازلاً .
ومن ذلك :
بعد غزوة المُريسيع سنة ست من الهجرة ورد الناس الماء ، وفيهم عمر ، ومع عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ t أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاه بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاه وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ -حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ - عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا ، فَصَرَخَ الْجُهَنِيّ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَصَرَخَ جَهْجَاه : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فقال : ما مثلنا ومثلهم إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ : سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ : هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ ؛ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ ، وَقَاسَمْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ . فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَقَالَ : مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنِ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟ لَا وَلَكِنْ أَذّنَ بِالرّحِيلِ» . وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ .
وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَلَغَهُ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلّغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ ، فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ وَلَا تَكَلّمْت بِهِ . - وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا - ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ : يَا رَسُولَ اللّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ قَدْ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرّجُلُ ([9]) . فَلَمّا اسْتَقَلّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَارَ لَقِـيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، فَحَيّاهُ بِتَحِيّةِ النّبُوّةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ ، ثُمّ قَالَ : يَا نَبِيّ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :«أَوْ مَا بَلَغَك مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ» ؟ قَالَ : وَأَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ :«عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ » . قَالَ : وَمَا قَالَ ؟ قَالَ :« زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ» . قَالَ : فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْت ، هُوَ وَاَللّهِ الذّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ . ثُمّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخَرَزَ ؛ لِيُتَوّجُوهُ ، فَإِنّهُ لَيَرَى أَنّك قَدْ اسْتَلَبْته مُلْكًا.وجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ ، فَإِنْ كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ ، فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَأْسَهُ ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلَهُ ، فَأَقْتُلَ رَجُلًا مُؤْمِنًا بِكَافِرِ ، فَأَدْخُلَ النّارَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :«بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا»
وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنّفُونَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ : «كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْ قَتَلْته يَوْمَ قُلْتَ لِي اُقْتُلْهُ لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْته» ؛ فقَالَ عُمَرُ : قَدْ وَاَللّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي ([10]).
ومن ذلك إشاعتهم للإفك والتهم بعد هذه الغزوة في محاولة بائسة لتدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يخفى ما نزل بشأن ذلك من القرآن في سورة النور .
ب/ اليهود :
من ذلك محاولتهم قتله صلى الله عليه وسلم ..
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب من بني النضير أن يعينوه في دية الكلابيين –وكان ذلك واجباً عليهم حسب بنود المعاهدة معهم – قالوا : نفعل وطلبوا زيارته قائلين : نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، قد آن لك أن تزورنا وأن تأتينا، اجلس حتى نتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند إلى بيت من بيوتهم، ثم خلا بعضهم ببعض فتناجوا، فقال حيي بن أخطب: يا معشر يهود قد جاءكم محمد في نفر من أصحابه لا يبلغون عشرة - ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وسعد بن عبادة - فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته فاقتلوه، ولن تجدوه أخلى منه الساعة، فإنه إن قتل تفرق عنه أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من كان هاهنا من الأوس والخزرج، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن، فقال عمرو بن جَحَّاش النضري: إذا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: يا قوم أطيعوني هذه المرة وخالفوني الدهر، والله لئن فعلتم ليخبرن بأنا قد غدرنا به، وإن هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه، فلا تفعلوا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا هو سبب غزوة بني النضير ([11]) .
ولقد حاول المنافقون منعهم من الخروج واعدين بأن يكونوا معهم كما أخبر الله في سورة النضير :} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ{ [الحشر:11-12] .
ومن محاولاتهم قتله حادثة الشاة المسمومة .. فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا ، فَجِيءَ بِهَا ، فَقِيلَ : أَلَا نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ :«لَا» ، قال أنس : فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ ([12]) رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ([13]) .
وعن أبي هريرة t قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً ([14]) سَمَّتْهَا ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ :«ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ ؛ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» ، فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الْأَنْصَارِيُّ ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ :«مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ» . قَالَتْ : إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ ، وَإِنْ كُنْتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ . فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ ([15]) .
قال النووي رحمه الله :" وَاخْتَلَفَ الْآثَار وَالْعُلَمَاء : هَلْ قَتَلَهَا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا ؟ فَوَقَعَ فِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّهُمْ قَالُوا : أَلَا نَقْتُلهَا ؟ قَالَ: «لا» ، وَمِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر ، وَعَنْ جَابِر مِنْ رِوَايَة أَبِي سَلَمَة أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا . وَفِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَاء بِشْر بْن الْبَرَاء بْن مَعْرُور ، وَكَانَ أَكَلَ مِنْهَا فَمَاتَ بِهَا ، فَقَتَلُوهَا . وَقَالَ اِبْن سَحْنُون : أَجْمَع أَهْل الْحَدِيث أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا . قَالَ الْقَاضِي : وَجْه الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات وَالْأَقَاوِيل أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلهَا أَوَّلًا حِين اِطَّلَعَ عَلَى سُمّهَا . وَقِيلَ لَهُ: اُقْتُلْهَا فَقَالَ : لَا ، فَلَمَّا مَاتَ بِشْر بْن الْبَرَاء مِنْ ذَلِكَ سَلَّمَهَا لِأَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا قِصَاصًا ، فَيُصْبِح قَوْلهمْ : لَمْ يَقْتُلهَا أَيْ فِي الْحَال، وَيَصِحّ قَوْلهمْ : قَتَلَهَا أَيْ بَعْد ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَم" ([16]) .
ومن صور إساءتهم : ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسٌ مِنْ الْيَهُودِ ، فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ . قَالَ : «وَعَلَيْكُمْ» . فقالت عائشة : بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُ واللعنة . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ فقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُم» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : }وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ{ [المجادلة :8] ([17]) .
الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، أما بعد ؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الإخوة الأكارم والأخوات الكريمات ..
عنوان هذه الورقة : (محاولات الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قديماً ، وكيف وجهت منه ومن أصحابه) ([1]).
وقبل البدء أرى أن من المتعينِ علي أن أتقدم بالشكر للإخوة الذين نظموا هذه الندوات ؛ للذب عن عرض نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان الذب عن آحاد المسلمين مما ينجي من عذاب النار فكيف بالذب عن سيد الأولين والآخرين ، قال صلى الله عليه وسلم :« من ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» ([2]) ، فاللهَ أسأل أن يجعلنا من الذَّابين عن عرض محمد صلى الله عليه وسلم ..
محاور هذه الورقة كما يلي :
* تسلية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بما كان يواجه من سب وتكذيب .
* تعريف السب .
* الذين صدر عنهم هذا الفعل قديماً ، وكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأذية ؟
* كيف واجه الصحابة ذلك ؟
* توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم .
وبعد هذا التعريف بمبادئ ورقتنا هذه يمكن أن أدلِفَ إلى أول محاورها ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الإخوة الأكارم والأخوات الكريمات ..
عنوان هذه الورقة : (محاولات الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قديماً ، وكيف وجهت منه ومن أصحابه) ([1]).
وقبل البدء أرى أن من المتعينِ علي أن أتقدم بالشكر للإخوة الذين نظموا هذه الندوات ؛ للذب عن عرض نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان الذب عن آحاد المسلمين مما ينجي من عذاب النار فكيف بالذب عن سيد الأولين والآخرين ، قال صلى الله عليه وسلم :« من ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» ([2]) ، فاللهَ أسأل أن يجعلنا من الذَّابين عن عرض محمد صلى الله عليه وسلم ..
محاور هذه الورقة كما يلي :
* تسلية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بما كان يواجه من سب وتكذيب .
* تعريف السب .
* الذين صدر عنهم هذا الفعل قديماً ، وكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأذية ؟
* كيف واجه الصحابة ذلك ؟
* توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم .
وبعد هذا التعريف بمبادئ ورقتنا هذه يمكن أن أدلِفَ إلى أول محاورها ..
تسلية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بما كان يواجه من سب وتكذيب
سلَّى الله نبيه بآيات عديدة لما واجه من صد وتكذيب ، من ذلك قوله تعالى : }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا { ([3]) .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :" }وكفى بربك هادياً ونصيراً { أي : لمن اتبع رسوله ، وآمن بكتابه ، وصدقه ، واتبعه ، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة " ([4]).
وقوله : } مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ{ ([5]) .
تعريف السب
ما هي الإساءة ؟ وما هو السب ؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله معرفاً السب :" الكلام الذي يقصد به الانتقاص و الاستخفاف ، و هو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن و التقبيح و نحوه " ([6]) .
الذين صدر عنهم هذا الفعل قديماً .. وكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحاولات ؟
الإخوة الأكارم .. ليس من الممكن حصر جميع المحاولات في مثل هذه الندوة ، ولكني أجتزئ بعضها ، فممن أساؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قديماً :
أ/ المنافقون .
وهذه بعض النماذج التي تبين ذلك :
من ذلك ما جاء في قول الله تعالى : }يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ{ ([7]) .
قال ابن كثير رحمه الله :" عن محمد بن كعب القُرَظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء. فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: } أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون { إلى قوله: } مجرمين { وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ([8]) .
فهذه الآية نصٌّ في أنَّ الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر ، فالسب بطريق الأولى ، و قد دلت الآية أيضاً على أن من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر ، جاداً أو هازلاً .
ومن ذلك :
بعد غزوة المُريسيع سنة ست من الهجرة ورد الناس الماء ، وفيهم عمر ، ومع عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ t أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاه بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاه وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ -حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ - عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا ، فَصَرَخَ الْجُهَنِيّ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَصَرَخَ جَهْجَاه : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فقال : ما مثلنا ومثلهم إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ : سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ : هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ ؛ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ ، وَقَاسَمْتُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ . فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَقَالَ : مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنِ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟ لَا وَلَكِنْ أَذّنَ بِالرّحِيلِ» . وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ .
وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَلَغَهُ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلّغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ ، فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ وَلَا تَكَلّمْت بِهِ . - وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا - ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ : يَا رَسُولَ اللّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ قَدْ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرّجُلُ ([9]) . فَلَمّا اسْتَقَلّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَارَ لَقِـيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، فَحَيّاهُ بِتَحِيّةِ النّبُوّةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ ، ثُمّ قَالَ : يَا نَبِيّ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :«أَوْ مَا بَلَغَك مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ» ؟ قَالَ : وَأَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ :«عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ » . قَالَ : وَمَا قَالَ ؟ قَالَ :« زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ» . قَالَ : فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْت ، هُوَ وَاَللّهِ الذّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ . ثُمّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخَرَزَ ؛ لِيُتَوّجُوهُ ، فَإِنّهُ لَيَرَى أَنّك قَدْ اسْتَلَبْته مُلْكًا.وجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ ، فَإِنْ كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ ، فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَأْسَهُ ، فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلَهُ ، فَأَقْتُلَ رَجُلًا مُؤْمِنًا بِكَافِرِ ، فَأَدْخُلَ النّارَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :«بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا»
وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنّفُونَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ : «كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ ، أَمَا وَاَللّهِ لَوْ قَتَلْته يَوْمَ قُلْتَ لِي اُقْتُلْهُ لَأُرْعِدَتْ لَهُ آنُفٌ لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْته» ؛ فقَالَ عُمَرُ : قَدْ وَاَللّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي ([10]).
ومن ذلك إشاعتهم للإفك والتهم بعد هذه الغزوة في محاولة بائسة لتدنيس فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يخفى ما نزل بشأن ذلك من القرآن في سورة النور .
ب/ اليهود :
من ذلك محاولتهم قتله صلى الله عليه وسلم ..
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب من بني النضير أن يعينوه في دية الكلابيين –وكان ذلك واجباً عليهم حسب بنود المعاهدة معهم – قالوا : نفعل وطلبوا زيارته قائلين : نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، قد آن لك أن تزورنا وأن تأتينا، اجلس حتى نتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند إلى بيت من بيوتهم، ثم خلا بعضهم ببعض فتناجوا، فقال حيي بن أخطب: يا معشر يهود قد جاءكم محمد في نفر من أصحابه لا يبلغون عشرة - ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وسعد بن عبادة - فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته فاقتلوه، ولن تجدوه أخلى منه الساعة، فإنه إن قتل تفرق عنه أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من كان هاهنا من الأوس والخزرج، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن، فقال عمرو بن جَحَّاش النضري: إذا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: يا قوم أطيعوني هذه المرة وخالفوني الدهر، والله لئن فعلتم ليخبرن بأنا قد غدرنا به، وإن هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه، فلا تفعلوا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا هو سبب غزوة بني النضير ([11]) .
ولقد حاول المنافقون منعهم من الخروج واعدين بأن يكونوا معهم كما أخبر الله في سورة النضير :} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ{ [الحشر:11-12] .
ومن محاولاتهم قتله حادثة الشاة المسمومة .. فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا ، فَجِيءَ بِهَا ، فَقِيلَ : أَلَا نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ :«لَا» ، قال أنس : فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ ([12]) رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ([13]) .
وعن أبي هريرة t قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً ([14]) سَمَّتْهَا ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ :«ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ ؛ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» ، فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الْأَنْصَارِيُّ ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ :«مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ» . قَالَتْ : إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ ، وَإِنْ كُنْتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ . فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ ([15]) .
قال النووي رحمه الله :" وَاخْتَلَفَ الْآثَار وَالْعُلَمَاء : هَلْ قَتَلَهَا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا ؟ فَوَقَعَ فِي صَحِيح مُسْلِم أَنَّهُمْ قَالُوا : أَلَا نَقْتُلهَا ؟ قَالَ: «لا» ، وَمِثْله عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَجَابِر ، وَعَنْ جَابِر مِنْ رِوَايَة أَبِي سَلَمَة أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا . وَفِي رِوَايَة اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَفَعَهَا إِلَى أَوْلِيَاء بِشْر بْن الْبَرَاء بْن مَعْرُور ، وَكَانَ أَكَلَ مِنْهَا فَمَاتَ بِهَا ، فَقَتَلُوهَا . وَقَالَ اِبْن سَحْنُون : أَجْمَع أَهْل الْحَدِيث أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَتَلَهَا . قَالَ الْقَاضِي : وَجْه الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات وَالْأَقَاوِيل أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلهَا أَوَّلًا حِين اِطَّلَعَ عَلَى سُمّهَا . وَقِيلَ لَهُ: اُقْتُلْهَا فَقَالَ : لَا ، فَلَمَّا مَاتَ بِشْر بْن الْبَرَاء مِنْ ذَلِكَ سَلَّمَهَا لِأَوْلِيَائِهِ فَقَتَلُوهَا قِصَاصًا ، فَيُصْبِح قَوْلهمْ : لَمْ يَقْتُلهَا أَيْ فِي الْحَال، وَيَصِحّ قَوْلهمْ : قَتَلَهَا أَيْ بَعْد ذَلِكَ . وَاللَّهُ أَعْلَم" ([16]) .
ومن صور إساءتهم : ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسٌ مِنْ الْيَهُودِ ، فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ . قَالَ : «وَعَلَيْكُمْ» . فقالت عائشة : بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُ واللعنة . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ فقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُم» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : }وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ{ [المجادلة :8] ([17]) .
عدل سابقا من قبل م/حسن المصري في السبت 25 أكتوبر - 20:16 عدل 2 مرات