[size=16]علي العمران
ساعة الاحتضار لا يمكن لأحدٍ أن يصفَ حقيقتها أو يصلَ إلى كُنْهها، لكن الكلُّ يعلم أنها ساعة رهيبة ولحظةً مُذهِلة، إنها ساعة الانتقال والتحول من الدنيا إلى الآخرة، من الحياة إلى الموت، هل هناك ساعة في الدنيا أرهب من هذه؟! هل هناك ساعة في الدنيا أشد حرجًا وأكثر شغلاً منها؟! كلا.
فما بالك بأناسٍ في هذه (الساعة وفي هذه اللحظة) يتذاكرون العلم، ويقيدون الفوائد، ويحرصون على ذلك كلِّه، كأقوى ما يكونون صِحَّةً، وكأشدِّ ما يكونون نَشَاطًا!! نعم هذا مما حفظه لنا التاريخ وسطرته الكتب، فثبت وصحَّ ليبقى عِبْرة وعِظة لِلخالِفِ، وحاديًا يتعلل به الطالب.
وسرُّ قدرتهم على ذلك، شِدَّة النَّهَمة، وسموّ الهمة.
قال العلامة ابن الجوزي:
لي همةٌ في العِلْم ما إن مثلُها خُلِقت من العِلْق العظيمِ إلى المُنَى | وهي التي جَنَتِ النُّحُوْلُ هي التي دُعِيت إلى نَيْل الكمالِ فَلبَّتِ |
وهذا مصداق خبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ((مَنْهُومانِ لا يَشْبَعَانِ، طالبُ عِلْمٍ وطالبُ دُنْيا)).
ولما سُئِل الإمام أحمد: إلى متى تطلب العلم؟ قال: من المحبرة إلى المقبرة.
فإليك ما وجدنا من خبرهم في ذلك :
* خبر أبي يوسف القاضي (182)
ذكر القرشي في ((الجواهر المُضِيَّة))، والمولى تقي الدين التميمي في ((الطبقات السنية)) في ترجمة إبراهيم بن الجراح التميمي مولاهم -تلميذ أبي يوسف وآخر من روى عنه- قال: ((أتيته أعوده، فوجدته مغمًى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم! أيُّهما أفضل في رمي الجمار، أن يَرْميَها الرجلُ راجلاً أو راكبًا؟
فقلت: راكبًا. فقال: أخطأتَ!.
قلتُ: ماشيًا. قال: أخطأتَ!.
قلت: قل فيها -يرضى الله عنك-.
قال: أما ما يوقف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه راجلاً، وأما ما كان لا يوقف عنده، فالأفضل أن يرميه راكبًا ثم قمت من عنده، فما بلغتُ بابَ داره حتى سمعتُ الصُّرَاخَ عليه، وإذا هو قد مات -رحمه الله تعالى- .
* خبر أبي زُرْعة الرازي (266)
قال ابنُ أبي حاتم في ((تقدمة الجرح والتعديل)): سمعتُ أبي يقول: مات أبو زُرعة مطعونًا مبطونًا يعرق جبينُه في النزع، فقلت لمحمد بن مسلم (ابن وَارَة): ما تحفظ في تلقين الموتى: لا إله إلا الله ؟ فقال محمد بن مسلم: يروى عن معاذ بن جبل.
فمن قبلِ أن يَسْتتم رفع أبو زرعة رأسه وهو في النزع، فقال: روى عبدالحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرَّة، عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخلَ الجنة)) فصار البيت ضجَّة ببكاءِ من حضرَ.
* خبر أبي حاتم الرازي (277)
قال ابنه عبدالرحمن في ((تقدمة الجرح والتعديل)): حضرتُ أبي -رحمه الله- وكان في النزع وأنا لا أعلم، فسألته عن عُقبة بن عبدالغافر، يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وله صحبة ؟ فقال برأسه: لا، فلم أقنع منه، فقلتُ: فهمتَ عني؟ له صحبة؟ قال: هو تابعي.
قلت (ابن أبي حاتم): فكان سيد عمله معرفة الحديث، وناقِلَة الأخبار، فكان في عمره يُقتَبَس منه ذلك، فأراد الله أن يُظهر عند وفاته ما كان عليه في حياته)) اهـ.
* خبر ابن جرير الطبري (310)
قال المعافى النَّهْرَواني في ((الجليس الصالح)): ((وحكى لي بعض بني الفرات، عن رجلٍ منهم أو من غيرهم: أنه كان بحضرة أبي جعفر الطبري -رحمه الله- قبل موته، وتوفي بعد ساعة أو أقلّ منها، فذُكِرَ له هذا الدعاء، عن جعفر بن محمد -عليهما السلام- فاستدعى محبرة وصحيفةً فكتبها، فقيل له: أفي هذه الحال؟! فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلمِ حتى يموت)) اهـ.
* خبر ابن سعدون (352)
ذكر القاضي عِياض في ((ترتيب المدارك)) في ترجمة أبي بكر محمد بن وسيم بن سعدون الطُّليطلي أنه كان رأسًا في كلِّ فن، مُتقدِّمًا فيه... قال: ((ودَخَل عليه -وهو في النزع- بعضُ أصحابه، فناداه، فلم يُجِبْه، فقال الآخر: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ/ 54] فقال له أبو بكر حين ذلك: نزلت في الكفار، وفيها: (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ).
* خبر مسرَّة الحضرمي (373)
وذكر عياضٌ في ((المدارك)) -أيضًا- في ترجمة مسرَّة بن مسلم الحَضْرمي ت (373) -وكان من أهل العلم والزهد التام- أنه لما احْتُضِرَ ابتدأ القرآن، فانتهى في (سورة طه) إلى قوله تعالى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه/ 84]، ففاضت نفسه.
* خبر البَيْرُوني الفَلَكِي (440)
ذكر ياقوت في ((إرشاد الأريب)) في ترجمة أبي الريحان محمد ابن أحمد الخُوَارَزْمي ما كان عليه من حرصٍ في تحصيل العلوم، وتصنيف الكتب، ثم ذلك له الفقيه الوَلْوَالجيّ قال: دخلتُ على أبي الرّيحان وهنو يجود بنفسه، وقد حَشْرج نفسُه، وضاقَ به صدرُه، فقال لي في تلك الحالة: كيف قلت لي يومًا حساب الجدَّات الفاسِدَة؟ فقلت له -إشفاقًا عليه-: أفي هذه الحالةِ؟! قال لي: يا هذا! أُوَدِّعُ الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة ألا يكون خيرًا من أن أُخلِّيها وأنا جاهلٌ بها. فأعدتُ ذلك عليه وحَفِظَ... وخرجتُ من عِنْده، وأنا في الطريق، فسمعتُ الصُّرَاخ)) اهـ.
* خبر ابن روزْبَه (633)
وفي ترجمة المُسْنِد أحمد بن عبدالله بن معطي الجزائري ت (666) في ((ذيل التقييد)) للفاسي أنه سَمعَ ((صحيح البخاري)) عَلَى علِيِّ بن أبي بكر بن رُوْزبة في أربعة عشر مجلسًا، وأنه قال لهم يوم الخَتْم: اجتهدوا في إكمال هذا الكتاب، فإنه -والله- ما بقي غيركم يسمعه عليَّ، وتوفي في الليلة المتصلةِ بذلك اليوم.
* خبر ابن مالك صاحب الألفية (672)
وفي كتاب ((الفَلاَكة والمفلوكون)) للدَّلَجي في ترجمة الإمام أبي عبدالله جمال الدين محمد بن عبدالله بن مالك النحوي العلامة، قال: ((كان كثير الإشْغَال والاشتغال، حتى أنه حفظ في اليوم الذي مات فيه خمسة شواهد!!)).
* خبر الصفي الهندي (715)
ذكر الذهبي في ((معجم شيوخه)) في ترجمته أنه روى له حديثين قال: ((ليسا هما عندي، قرأتهما عليه ونَفَسُه يُحشرج في الصدر، فتوفي يومئذٍ عفا الله عنا وعنه آمين)) اهـ.
* خبر الحجَّار (730)
وهذا المعمّر الأعجوبة، شهاب الدين أبو العبَّاس أحمد بن أبي طالب الحجَّار، مُسْند الدنيا ت (730)، فقد ذكر الفاسيُّ أن الطلاب قد قرءوا عليه في يومِ موته، وله مئة سنة وعشر سنين تقريبًا!!
أقول: فاتعظ بهذه الهِمم العَلِيَّة، وابْكِ على تقصيرك ودُنُوِّ هِمَّتك، واستدرك ما فرط من أمرك بالجدِّ والعمل، ومداومة الدرس والنظر، فمن سار على الدرب وصل، وعند الصباح يَحْمَد القوم السُرَى.
وقريب من هذا ما جاء في سِيَر بعض العلماء، فهم مع شدة تطلُّبهم للعلم من بادِىء أمرهم حتى أوفوا فيه إلى الغاية، فاستكثروا ما شاءوا، ومع تقدُّم أعمارِهم ودنوِّ آجالهم هم مع ذلك= يَجِدون من الرغبة في العلم، والشغف به، أكثر مما يجده الشَّاب اليافِع المُمْتلىء قُوَّةً ونشاطًا!!.
* خبر ابن عقيل الحنبلي (513)
ففي ترجمة أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي ت (513) -رحمه الله- أنه قال: ((إني لأجد من حِرْصي على العلم، وأنا في عَشْرِ الثمانين أشدّ مما كنت أجده وأنا ابنُ عشرين سنة)).
* خبر ابن الجوزي (597)
وهذا العلامة المتفنِّن، صاحب التصانيف، أبو الفرج ابن الجوزي (567) يقرأ في آخر عمره وهو في (الثمانين) القراءات العشر على ابن الباقلاني، مع ابنه يوسف.
قال الذهبي -معلِّقًا-: ((فانظر إلى هذه الهمة العالية!)) اهـ.
* خبر مرتضى الزبيدي (1205)
قال العلامة عبدالحي الكَتَّاني في ((فهرس الفهارس والأثبات)) في ترجمة العلامة اللغوي المحدِّث محمد مرتضَى الزَّبيدي: ((ومع كثرة شيوخ المترجَم كثرةً مَهُوْلَةً بالنسبة إلى مشايخه ومُعاصِريه= كان غير مُكْتَفٍ بما عنده، بل دائم التطلّب والأخذ، ومكاتبة من بالآفاق، حتى أني رأيتُ بخطِّه في كناشة ابن عبدالسلام الناصري استدعاءً كتبَه لمن يلقاه ابنُ عبدالسلام المذكور (وذكر نصَّه، وفيه: استجازة كل من يلقاه من الشيوخ والعلماء بتاريخ 1197).
قال (الكتاني): وإن تعجب فاعجب لهذه الهمة، والحِرص من هذا الحافظ العظيم الشأن، وعدم شَبَعه، وكثرة نَهَمِه، فإنه عاش بعدما كتب هذا الاستدعاء نحو الثمان سنوات.
وهذا نظيرُ ما وجدته من كَتْب اسم الحافظ ابن الأبّار (658) في استدعاءٍ مؤرَّخ بقريب من سنةِ وفاته! ومنهومان لا يشبعان: طالب علمٍ وطالب دنيا)). انتهى كلام الكتاني.
أقول: ولئن عدَّ الذهبيُّ والكتانيُّ ما وقع لهؤلاء العلماء من النهمة الشديدة، والحرص العظيم، والهِمَّة العالية= فَلَعَمْري إن طلبه، والحرص عليه، والمذاكرة به في ساعة الاحتضار، ووقتِ النزْعِ لأعظم دلالة من ذلك وأوضح.
فلله تلك الهمم والعزائم!!
[/size]