البسملة
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعـد:
فإن جانب الدعوة في السيرة النبوية موضوع جدير أن يعرض على الناس ولاسيما الدعاة.
إن جانب الدعوة في السيرة يشمل السيرة كلها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ومبشر ونذير وداع إلى الله، بل هو سيد الدعاة. يقول الله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا) [الأحزاب: 45-46].
ولذا فلن أعرض في هذه الكلمة لمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية أسردها سردًا كاملًا ؛ لأن ذلك يقتضيني عرض السيرة النبوية عرضًا تامًّا من أولها إلى آخرها.. ولكني سأعرض إلى إمكانية استفادة الداعية من السيرة، وإمكان استفادة المدعوين من السيرة.
والموضوع – حتى بهذه الحدود – واسع جدًّا، من أجل ذلك فسآتي ببعض الأفكار والخواطر حول هذا الموضوع.
وأحب أن أذكر في هذه المقدمة صلتي القديمة بالسيرة النبوية.. إن السيرة ليست غريبة عليَّ.. فمنذ أيام الطفولة المبكرة كانت لي صلة بأحداث السيرة عن طريق السماع.. ومازلت أذكر تلك الجلسات المحببة التي كنا نتحلق فيها حول الوالدة نصغي إلى حديثها المحبب وهي تقص علينا قصصًا رائعة من حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.. تقصها علينا بطريقة جذابة وبأسلوب مفهوم، ولقد كانت تلك القصص أحب شيء إلينا، وكانت والدتي تحسن الحديث، وكانت حافظة لمعظم أحداث السيرة وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم ترويها عن والدها الذي كان تاجرًا وطالب علم رحمها الله رحمة واسعة وجزاها عنا خيرًا.
ورحم الله سيدي الوالد الذي كان يجمعنا بعدما جاوزنا مرحلة الطفولة ودخلنا مرحلة الفتوة والشباب، كان يجمعنا في السهرة على قراءة السيرة، وغالبًا ما كان يعهد إليَّ بقراءة الجزء المخصص لتلك الجلسة، وكان لذلك التصرف أثر كبير في نفسي وفي تكويني العلمي. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عنا خيرًا.
ولما بدأت بطلب العلم كان من المواد التي درستها على المشايخ (السيرة النبوية) فقد قرأت على الشيخ كتابًا كاملًا في السيرة، وكنا في الوقت ذاته نقرأ موضوعات من السيرة في الكتب الموسعة كالسيرة الحلبية، وسيرة ابن هشام، والبداية والنهاية لابن كثير وغيرها.
وكنت أعتمد على السيرة النبوية في خطب الجمعة، وفي دروسي في المساجد، ولما رزقني الله أولادًا من بنين وبنات كنت أعقد لهم درسًا يوميًّا، وكان عماد هذا الدرس السيرة النبوية، وقد تعلق الأولاد بهذا الدرس تعلقًا شديدًا حتى كانت عقوبة الذي يذنب من الأولاد حرمانه من حضور الدرس، فكان الولد المحروم يبكي ويوسط أمه ويتعهد بالتوبة، وبأن لا يعود إلى هذا الذنب مقابل أن يسمح له بالحضور.
وكان هذا الدرس نافعًا للأولاد أعظم النفع ولله الحمد والمنة.
وبقيت آنس بالسيرة فأفزع إليها، أقرؤها بني وبين نفسي، وأستشهد بأحداثها في أحاديثي وكتاباتي.
إن الحديث عن السيرة في مجال الدعوة يمكن أن يكون في جانبين:
- جانب الدعاة.
- وجانب المدعوين.
أما الدعاة: فإن لدراسة السيرة واستحضار أحداثها من قبل الدعاة فوائد عدة، تعود عليهم بالتوفيق والسداد في عملهم وبالخير العميم.
(1) إنها تملأ صدورهم بالأمل الواسع عندما يلاقون المصاعب والمتاعب والعقبات، وتنأى بهم عن اليأس، وتدفعهم إلى العمل، وذلك عندما يتذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجه الدنيا التي كانت تموج بالشرك والظلم والعدوان، واجهها بعمل وصبر ورفق وحزم وأمل واسع... فدانت له الدنيا، وخضع لسلطانه الوجود، ولم يمض على وفاته صلى الله عليه وسلم مائة عام حتى كانت دعوته قد عمت الكون المعمور، وأصبحت كلمة التوحيد والتكبير تعلو المآذن من حدود فرنسا إلى حدود الصين: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله.
(2) إنها تبين لهم المراحل التي ينبغي أن يسلكوها في الدعوة متأسين بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أخذت دعوته صلى الله عليه وسلم في المدينة منحى يختلف عن المنحى الذي كانت عليه الدعوة في مكة.
(3) إنها توضح الأوليات ومراتب الواجبات والمحرمات، وتحدد لهم الأمور التي يبدؤون بها، وهي الأمور المتصلة بالعقيدة، فلقد ظل معظم اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بالتوحيد ونبذ الشرك.
(4) إنها تبين للدعاة الصفات الأساسية المهمة التي ينبغي أن يتصفوا بها وترغبهم بذلك. ومن أهم هذه الصفات: العلم، والتخطيط، والتدرج، والتلطف والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والحلم، والشعور بالمسؤولية، والصبر والثبات، والالتزام بما يدعو الناس إليه، والزهد والقناعة، والجرأة في قول الحق وغير ذلك من الصفات مما سنبينه في هذا البحث إن شاء الله.
وأما بالنسبة إلى جانب المدعوين فهناك الأفكار الآتية:
(1) إن في سماعهم لأحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنمية لحب النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه من أسس الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده " رواه البخاري برقم (14) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وروى البخاري عن أنس -رضي الله عنه- بلفظ:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " رواه البخاري برقم (15)، ورواه مسلم برقم (44)، ورواه أحمد والنسائي وابن ماجة.
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم أمر قائم في نفوس الناس على الرغم من وقوعهم في انحراف أحيانًا، وهذا يجعل إصغاءهم ومتابعتهم للمتحدث أشد وأقوى وانتفاعهم أعظم.
(2) في سماعهم أحداث السيرة إعانة لهم على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
(3) في سماعهم أحداث السيرة إعجاب بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر بالموعظة.
(4) في سماعهم أحداث السيرة إقناع للمسلمين بأن أحكام الدين التي جاء بها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم حلت للناس مشكلاتهم.
(5) السيرة النبوية تمثل التطبيق العملي لمبادئ الإسلام، وتجعل الأمور المجردة أشياء محسوسة ظاهرة ووقائع في عالم الحس، فهي تجسيد للمعاني الكريمة التي يريد الدعاة أن يقرروها للناس.
(6) السيرة النبوية قصة حياة أعظم إنسان عرفته الإنسانية صلى الله عليه وسلم، ومن الطبائع البشرية أن السامع للقصة عندما يعجب ببطل القصة يحاول تقليده، والقصة شيء تميل إليه النفس، وقصة حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي غرس حبه في قلوب الناس لها تأثير وأي تأثير.
وسنورد إن شاء الله فصلًا عن أهمية القصة في الدعوة.
إن السيرة النبوية سجلت أحداث حياة أعظم شخصية عرفها البشر، وأكرم رسول من رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين.
ومن حسن حظنا وحظ الإنسانية أن نُقلت لنا أحداث حياته صلى الله عليه وسلم على وجه لا نعرفه في حياة إنسان آخر.
وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والقدوة الفاضلة للمؤمنين. قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب:21].
وما أشد حاجة المسلمين اليوم إلى أن يتذكروا ما جاء في سيرته صلى الله عليه وسلم ليقتدوا به ويعملوا بما جاءهم به من عند الله من الهدى والحق والخير، فواقعهم واقع مؤلم، وكيد الكفرة ضدهم متعاظم في كل مكان.
وسيكون حديثنا عن الجانب الدعوي في السيرة النبوية الشريفة إن شاء الله في حلقات، وهذا يدعونا إلى أن نحدد المراد من الدعوة لغة واصطلاحاً.
الدعوة لغة:
قال ابن فارس في " المقاييس ":
[الدال والعين والحرف المعتّل أصل واحد، وهو أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام منك. تقول: دعوت أدعو دعاءً].
وقال الفيومي في " المصباح المنير ":
[دعوت الله أدعوه دعاءً: ابتهلتُ إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً: ناديته وطلبت إقباله. ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة، فهو داعي الله. والجمع دعاة وداعون.. والنبي داعي الخلق إلى التوحيد].
وقال الراغب في " المفردات ":
[والدعاء إلى الشيء: الحثُّ على قصده.. قال تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام) [يونس:25] وقال: (يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) [غافر:41-42].
والدعاء عند علماء البلاغة نوع من أنواع الطلب، وذلك عندما يكون من الأدنى إلى الأعلى، وأما الأمر فهو طلب الفعل على وجه الاستعلاء أي يكون من الأعلى إلى الأدنى، وإذا كان من المثل إلى مثله فهو الالتماس.
[إنّ موضوع الدعوة إلى الله موضوع يحتاج إلى أن يعالج من قبل رجالات كبار، يملكون طاقات ضخمة ومواهب فذة، ومعرفة واسعة.. ولا يجوز أن تقابل الحركات الهدامة بروح اللامبالاة التي صار إليها بعض الدعاة بسبب الإحباط الذي أصيبوا به نتيجة للنكبات المتوالية التي وجّهت إلى كثير من الدعاة في عدد من البلاد.
لا بُدَّ من ظهور دراسات عميقة وافية تعالج الواقع الذي يحياه المسلمون، وأوضاع مجتمعهم التي تتبدل حينا بعد حين، إنّ معرفة العصر وتياراته والواقع الاجتماعي والسياسي القائم، والتخطيط وَفْق هذه المعرفة ضرورة من ضرورات الدعوة التي تطمح إلى النجاح].