انقطاع في الكوابل البحرية ، توقف في تدفق البيانات والمعلومات عبر شبكة الانترنت تأخر المعاملات البنكية والمالية والمصرفية ، خسائر بمئات الملايين من الدولارات ، حالة هلع في بعض قطاعات الأعمال .
هذه بعض عناوين الأخبار التي سادت خلال الأيام القليلة الماضية جراء انقطاع بعض الكوابل البحرية في البحر المتوسط والخليج العربي ، لأسباب غامضة لم تتضح بعد .
لماذا سادت كل هذه الفوضى؟ وهل كان في الإمكان تلافي حدوث مثل هذه المشكلة؟ ألم يكن قطاع الاتصالات والشركات المزودة لخدمات الإنترنت على استعداد لمواجهة مثل هذه الأزمة التي يمكن أن تحدث وان تتكرر في أي لحظة؟ وهل أن قطاع الاتصالات في بلادنا العربية من الهشاشة والضعف بحيث يصاب بالانهيار بسبب انقطاع كابل بحري؟
أسئلة كثيرة واستفسارات فرضت نفسها على كل إنسان عربي يعيش ضمن المعطيات الحضارية للقرن الحادي والعشرين.
الكوابل البحرية وأهميتها العالمية
تعتبر الكوابل البحرية أحد أهم الإنجازات التي تحققت في مجال نقل وتبادل البيانات والمعطيات الرقمية حول العالم ، فثمانين بالمائة من مجمل الاتصالات ونقل البيانات تتم عبر هذه الكوابل ، نظرا لسرعة تدفق البيانات فيها ، وتمتعها بدرجة عالية من الأمن والسرية ، والدقة العالية في نقل الإشارات ، وقلة تكاليفها بالمقارنة مع الأقمار الصناعية وغيرها من الوسائل .
تاريخ نشأة الكوابل البحرية
تعود نشأة هذه الكوابل إلى عام 1850 ، عندما تم مد أول كابل بحري بين فرنسا وبريطانيا ، وأعقبه في عام 1863 مد كابل بحري بين بريطانيا والجزيرة العربية والهند ، وفي عام 1902 تم مد كابل آخر بين أمريكا وهاواي ، وهذه الكوابل تم استخدامها لنقل رسائل التلغراف ثم لإجراء المكالمات الهاتفية ، هذا علما بأنها كانت بدائية في تركيبها وتصميمها ، إذ كانت مصنوعة من الأسلاك المعدنية التقليدية .
ومع زيادة التقدم في مجال الاتصالات ، تم إنشاء العشرات من هذه الكوابل والتي ربطت معظم أجزاء الكرة الأرضية ، ونظرا للحاجة الماسة إلى مواكبة التقدم التكنولوجي في قطاع الاتصالات تم في عام 1988 مد أول كابل مصنوع من الألياف الضوئية وذلك عبر المحيط الأطلسي ، ثم تولت بعد ذلك شركات كبرى عالمية مد هذه الكوابل الحديثة في شتى أنحاء العالم، حتى تحول عالمنا الحالي إلى قرية صغيرة بفضل هذه الوسيلة الفعالة للاتصال بين الناس في شتى أنحاء المعمورة.
تركيب الكوابل البحرية
تتركب الكوابل البحرية الحديثة من مجموعة من الطبقات المختلفة التي تلعب دورا هاما في حسن سير عملها ، وهذه الطبقات صممت لحماية الجزء الأهم من الكابل ومنع الضرر الذي قد يلحق به جراء تعرضه لمؤثرات خارجية ، وهذه الطبقات هي :
1- غلاف من مادة البولي ايثيلين Polyethylene ، وهي مادة كيميائية مقاومة للماء.
2- شريط لاصق سميك Mylar.
3- أسلاك حديدية غير قابلة للأكسدة.
4- حاجز مضاد لتسرب الماء مصنوع من الألمنيوم.
5- غلاف من البولي كربون polycarbonate ، وهذه المادة مقاومة للصدمات ولدرجات الحرارة المتطرفة.
6- ماسورة من النحاس أو الألمنيوم.
7- جل بترولي كثيف جدا.
8- ألياف بصرية دقيقة Optical Fibers، يتم نقل الإشارات الضوئية في داخلها.
تمديد الكوابل البحرية يتطلب استخدام تقنيات متطورة وفرق فنية متخصصة وسفن مجهزة لهذه الغاية ، حيث يتم الاستعانة بالأقمار الصناعية لمعرفة أفضل مسار ممكن لهذه الكوابل ، كما يتم تركيب وحدات تضخيم كل مئة كيلومتر تقريبا تدعى Repeaters والتي تلعب دورا هاما في تضخيم الإشارة المارة في هذه الكوابل.
إن التطورات التي أدخلت على هذه الكوابل والتحسينات التقنية والفنية ، أهلتها لنقل كم هائل من البيانات في اللحظة الواحدة ، وصل إلى أكثر من 1.5 تيرا بايت في الثانية الواحدة ، وهذه الميزة أكسبت هذه الكوابل سمعة طيبة في مجال نقل وتبادل البيانات والمعلومات والمعطيات الرقمية بكل سهولة ويسر.
تلف الكوابل البحرية وإصلاحها
تتعرض الكوابل البحرية لمخاطر متنوعة مما يؤدي إلى قطعها وتلفها أو إلحاق أضرار جزئية فيها ، هذه الأضرار قد تنجم عن الحركات الأرضية في قيعان البحار والمحيطات بسبب الزلازل والصدوع والانهيارات والبراكين ، كما قد تلحق بها بعض الأسماك والكائنات البحرية أضرارا فادحة وخصوصا اسماك القرش التي قد تتمكن من قطعها أو تدمير تركيبها ، كما قد تتعرض هذه الكوابل للتلف جراء السفن ومراسيها أو نتيجة عمليات الصيد التي تتم في البحار .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإن هذه الكوابل يمكن أن تتلف نتيجة الأعمال التخريبية المتعمدة ، كما هو الأمر في النزاعات الدولية والحروب والهجمات الإرهابية.
وإصلاح هذه الكوابل التالفة يعتبر أمرا شاقا ولا يمكن أن يتم إلا من قبل فرق عمل متخصصة في هذا المجال وبواسطة سفن إصلاح خاصة ، ولدى حدوث أي عطل ، يتم أولا تحديد مكان حدوث التلف في الكابل البحري عن طريق إرسال إشارة ضوئية في هذا الكابل من قبل جهاز يطلق عليه اسم مقياس الانعكاس الزمني الضوئي ، ولدى وصول هذه الإشارة إلى مكان التلف تنعكس وتعود إلى مصدر إطلاقها ،وبحساب الزمن اللازمة لذهاب الإشارة وانعكاسها يمكن تحديد مكان الخلل في الكابل بسهولة ويسر وبهامش خطأ يبلغ حوالي 10 متر.
بعد تحديد مكان التلف في الكابل ، تتوجه طواقم العمل إلى المكان المحدد ويتم رفع الكابل المعطل إلى سطح سفينة الإصلاح بواسطة روافع هيدروليكية قوية ، ثم يتم إجراء عملية التصليح ووصل الأجزاء المقطوعة بالاستعانة بأجهزة خاصة لهذه الغاية ومجاهر لوصل الألياف الضوئية التالفة وربطها من جديد وإعادة فحصها للتأكد من أن الكابل تم وصله بشكل مناسب .
يتم بعد ذلك إعادة الكابل إلى مكانه تحت سطح الماء ، وبواسطة آلة خاصة يتم طمر هذا الجزء تحت قاع المحيط لضمان عدم تعرضه مجددا للتلف.
إجراءات لا بد منها
إن ضمان عدم تكرار انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت في منطقتنا العربية ، مرهون بجودة وسلامة مثل هذه الكوابل التي تشكل همزة الوصل بيننا وبين العالم، فليس من المقبول أن تكون شبكة الإنترنت وشبكة الاتصالات بوجه عام مرهونة لكابل بحري ملقى في مكان ما.فحدوث مثل هذا الخلل التقني وارد في أي مكان في العالم وفي أي زمان ، لكن عدم وجود احتياطات وخطط بديلة وقنوات اتصال احتياطية يعتبر أمرا خطيرا للغاية ، فبين لحظة وأخرى يمكن أن نصبح في جزيرة معزولة عن محيطنا الدولي.
إن توجيه جزء من الاستثمار في هذا المجال ، أمر ضروري للغاية ، وتشجيع شركات دولية لمد كوابلها في منطقتنا العربية يعتبر أمرا هاما وحيويا ولا يحتمل التأخير وخصوصا أن منطقتنا العربية تتمتع بموقع جغرافي وسطي ممتاز.
هذه الحادثة بينت إن دوام تواصلنا مع محيطنا أصبح أمرا حيويا وهاما، فشبكة الإنترنت لم تعد من كماليات الحياة ووسيلة لممارسة هواياتنا وقضاء أوقات الفراغ من خلال تصفح ما ينشر عليها من أخبار ومعلومات ، بل أصبحت جزءا هاما من منظومة حياتنا اليومية وأصبح التواصل عبرها أمرا أساسيا لشركاتنا ومؤسساتنا المختلفة .
من هنا فإن توفير الاتصال الجيد أمرا لا يمكن أن يكون رهنا بكابل بحري قد ينقطع مستقبلا في أي لحظة وفي أي مكان ، مما سيفرض علينا أن نغرق مجددا في ظلام معلوماتي.